اللغة العربية بين القوة والضعف
لا شكَّ في أنَّ اللُّغة، ولا أقصد العربيَّة فحسب، بل كلَّ لغاتِ العالم، هي وسيلة فهمٍ وإفهام، والغاية الأولى منها هي التَّواصل مع الأقران، إلا أنَّ اللُّغة في تطوُّرها المستمرّ وعلى مرِّ العصور أخذت تكوِّن لنفسها سلطةً وقواعد لتكون الوعاءَ الَّذي يحفظُ التَّاريخ والسِّير والعلوم، ثمَّ ما لبثت أن غدَت وسيلةً لنقلِ المشاعرِ والأحاسيس والتَّعبير عنها، كما باتت للُّغاتِ ارتباطاتٌ عقائديَّةٌ عند بعض البشر، تماما كما ارتبطتِ اللُّغة السّريانيَّة بالدِّيانة المسيحيَّة، والَّتِي ساهمت بنشرِهَا بشكلٍ كبير، وكذلك اللُّغة العربيَّة الَّتي لاقت إقبالًا واسعًا من المسلمين في شتَّى بقاعِ الأرض، الأمرُ الَّذي فرضَ على كلِّ مسلمٍ أن يتعلَّمها لأنَّها من صميم العقيدة.
ومن جانب آخر كان للُّغة العربيَّة ارتباطاتٌ جغرافيَّةٌ، فمن أهمِّ الرَّوابطِ بين البلادِ العربيَّةِ هي اللغةُ الواحدةُ المشتركة، اللغة التي يتحدث بها ما يزيد عن 550 مليون نسمة في شتى أنحاء العالم باعتبارها اللغة الأساسية عندهم، والَّتي دَئِبَ كلُّ حاقدٍ على الإسلام انتزاعَ هذا الرابطِ والتفريطِ به تحقيقَا لـ: (فرِّق تَسُدْ).
ولمّا كان للُّغةِ العربيَّة هذا الشَّرف العظيم بأنَّها لغةُ القرآنِ الكريم، حرصَ العلماءُ الأوائلُ على حفظها وضبطِها ضمنَ قواعدَ لتسلمَ من لحنِ الأعاجمِ المقبلين على الإسلام، تلك القواعد الَّتي وُضِعت أساسًا للأعاجم، وبعد ذلك استطاعت اللُّغة العربيَّة جمعَ الحضاراتِ القديمةِ من فَلسفاتٍ يونانيَّة وإغريقيَّة فيما يعرف بعهد التَّرجمة والازدهار، فغدت بذلك لغةَ العصرِ والعلمِ والدِّين فاجتمعت لها كلَّ أسبابِ الكمال.
ولأنَّ الحالَ لا يدوم؛ بدأ العالمُ الإسلاميُّ والعربيُّ بالتَّراجع سياسيًّا وعسكريًّا، حتَّى وصل إلى تصنيف المسلمين كَعَالَمٍ ثالثٍ، أو كبلادٍ نائيَةٍ متخلِّفة، فبدأ النَّاس بالانسلاخِ عن لغتهم بدءًا من اختيارِ الأسماء الأعجميَّة لأبنائهم، ومؤسَّساتِهم، مرورًا بمنصات وسائل التَّواصل الاجتماعي، وصولا للمناهج التعليميَّة، فلا يُعتبر الإنسانُ مثقفًا ما لم يُتقن لغةً أو أكثر من اللُّغات العالميَّة، فازدادَ حرصُ النَّاس على اكتسابهم اللُّغاتِ الأجنبيَّةِ بمقدارِ بُعدِهِم وخَجَلِهم من اللُّغةِ العربيَّة، وهنا اتَّسعَ الشَّرخُ بين اللَّهَجَات الطَّاغيةِ على ألسنَةِ العامَّة والخاصَّة، حتَّى أنّه لم يعد يفهم أبناء المشرق العربي ما يقوله أبناء المغرب العربي.
أين إذًا دورُ المؤسَّساتِ التَّعليميَّة؟
المؤسَّساتُ التَّعليميَّةُ في عالمنا العربي تُقسمُ إلى مدارسَ عالميَّةٍ ومدارسَ حكوميَّةٍ ومدارسَ إسلاميَّةٍ ومدارس الإرساليّات التبشيريّة، وجميعُها يحرص أشدَّ الحِرصِ على تعليمِ الموادِ الأجنبيَّة والتفوّق فيها، وكل ذلك إنَّما يكون على حسابِ الموادِ العربيَّة أو التي تُدَرَّسُ باللُّغة العربيَّة، مع وجودِها الخجولِ بساعاتِها المُمِلَّةِ الكئيبةِ. مادَّةُ اللُّغةِ العربيَّةِ الَّتي تحوَّلت إلى مادةٍ أشبهَ بالعقابِ، فيراها البعضُ مادَّةً مُمِلَّةً، والآخرُ يراها جافَّةً، وآخرٌ يرى أن يتمَّ إلغاؤها من المناهج، إذ لا نفع يرجى من تعلُّمها، فلُغةُ التَّطوُّرِ والعولمَةِ والرُّقيِ وحتَّى سوقُ العملِ لم تعد اللُّغة العربيَّة على حدِّ زعمِهِ.
ومن جانبٍ آخر، يبقى معلمو اللُّغة العربيَّة المنبوذون المهمَّشون من قِبل إداراتِ تِلك المؤسَّسات التَّربويَّة يتخبَّطون بين استخدام لغةٍ باتت غريبةً تُثيرُ سخريَةَ بعضِ الطُّلابِ أو استخدامِ لهجةٍ عاميَّةٍ لا تُسمِنُ ولا تُغنيِ من فهم، وينقسمون بذلك، فمنهم من اعتبر نفسه موظفًا يؤدِّي واجِبَه ليأخُذَ راتبه، ومنهم -وهم قِلَّة- من ينبري للدِّفاع عنها في كلِّ محفلٍ ومناسبةٍ، ولا يألو جهدًا في تقويم ما استطاع من طلابه ومجتمعه.
خلاصة القول: إنَّ لغتنا العربيَّةَ بحاجةٍ إلى انتفاضةٍ وثورةٍ تعيد لها مكانَتَها المرموقةَ بين اللُّغات، وهذا الأمرُ لا يتِمُّ ما لم تمتلكِ اللُّغةُ أبناءً بررةً يُحسِنُونَ إليها على اعتبارها اللُّغة الأم، لأن العربيَّة الفُصحى ليست لغتَنا الأمّ، إِنَّما اللَّهجات على صعيد الدُّول العربيّة وعلى الصَّعيد المحليّ هي اللُّغاتُ الأم الَّتي ورثناها من الآباءِ ونورثُها للأبناء، ولا ننسى قول ابن خلدون في مقدمتِهِ (إنَّ اللُّغة مكتسبةً)، وإنَّما يكون اكتسابها مشافهةً فتعليمِ القواعدِ والبلاغةِ وحده لا يكفي، فساعةُ استماعٍ يوميًّا لمتحدثٍ عربيٍّ فصيحٍ تغني عن شهورٍ من تحفيظِ القواعدِ، فاللُّغة بحاجةٍ للتَّطبيقِ لا إلى القعيد.
فهل ستعود الفصحى هي اللغة الأم للعرب يوما ما؟