بعد ثورةٍ دامت لثلاثةَ عشرَ عامًا، جاءَت لحظةُ
الخلاصِ من منظومَةِ الفسادِ والإفساد السُّوريَّة، فلم يبقَ كبيرٌ أو صغيرٌ مؤيدٌ
أو معارضٌ إلَّا وهلَّلَ وكبَّر فرحًا بهذا النَّصر الكبير، بزوالِ الغمامةِ السَّوداءِ
عن سماءِ سوريا والمَنطقة، وهنا ازدادَ رصيدُ مصطَلَحِ (الحريَّة) من الاستِخدام.
فما مفهوم الحريَّة؟ وهل تحقَّقت فعلًا؟ وإلى أيِّ مدىً
بتنا أحرارًا؟
الحريَّة من منظور
المدنيَّة هي إمكانيَّة الفردِ دونَ أي جبرٍ أو شرطٍ أو ضغطٍ خارجيٍّ من اتِّخاذ
قرارٍ أو تحديدِ خيارٍ من عدَّةِ إمكانات موجودة. فمفهومُ الحريَّة يُعيّن بشكلٍ
عام شرطَ الحكم الذَّاتي في معالجةِ موضوع ما.
أمَّا من منظورِ الإسلام فإنَّ الحريَّةَ هي أساسُ التَّکليف،
(ضدّ العبوديّة)، وهي الَّتي تميَّزُ الإنسانَ عن سائِرِ المخلوقاتِ، فإذا فُقِدَتِ
الحرِّيَّة فُقِدَت الکرامةُ والإنسانِيَّة. والإسلامُ قد سبَقَ جميعَ المبادِئِ
الأرضيَّةِ في تقريرِ هذه الحريَّةِ وصيانَتِها والحفاظِ عليها.
لكن يبقى السُّؤال الأهمّ: هل تحقَّقت الحريَّة؟ وما
الفرقُ بين الحريَّةِ الواعيَةِ والحريَّةِ الغبِيَّة؟ من يستحقُّ أن يكونَ حُرًّا؟
من يقرأ في كتبِ الفقهِ الإسلاميِّ يلاحِظُ حكمَ
المعتوهِ أو الأرعَنِ أو السَّفِيه، وقد جعل الإسلامُ حقَّ الوصَايَةِ لازمًا على
مثلِ هذه النَّماذِج، وذلك لعدَمِ توَفُّرِ الأهليَّةِ فيهم لممارسَةِ حريّة
التَّصرُّف، فيُحجرُ على أموالِه أو يُعَيَّن له وصيٌّ، فيُمنَعُ من ممارسة حريّته
بالنَّظر إلى سوءِ سلوكِهِ وتصرُّفِهِ، إذا فالشَّرطُ أن يتمتَّعَ الإنسانُ
بالأهليَّةِ الَّتي تقودُهُ لممارسَةِ الحُرِّيَّةِ. ومن هنا نأتِي إلى مصطَلَحِ
الحريَّةِ الواعية.
فمن هو الَّذي
يتمتَّعُ بالحريَّةِ الواعية؟
إنَّ الشُّعوبَ الَّتي تستحقُّ الحريَّةَ فعلًا هي تلكَ
الشُّعوبُ المدنيَّةُ الَّتي تمتلِكُ رادعًا يقفُ حائِلًا بينها وبينَ الوُقوعِ في
حقُوقِ النَّاس، وتُحسنُ التَّصرّف فيما تملكه، وهذا الحائِلُ الرَّادِعُ على نوعين:
إمَّا أنَّ لديهِ عقيدةً وإسلامًا راسخًا يحلِّلُ الحلالَ ويحرِّمُ الحَرامَ،
ولديهِ منَ التَّقوَى ما يجعلُهُ بعيدًا عن الشُّبُهاتِ، ويجعلُهُ مُتورِّعًا عن
أكلِ حقُوقِ النَّاس، فيعرِفُ ما لَهُ وما عليهِ من حقوقٍ وواجِبَات. أو أنْ يكونَ
لديهِ عقلٌ وأخلاقٌ مدنِيَّة تبعدُهُ عمَّا ذكرنَاه.
إذًا من يستحقُّ امتلاكَ
الحريَّةَ يجبُ أن يكونَ واعيًا لحقوقِهِ وواجبَاتِهِ، وهذا الأمرُ يتحقَّقُ إمَّا
بإسلامٍ صحيحٍ معتدَلٍ وإما بعقلٍ وثقافَةٍ مجتَمَعِيَّةٍ واعيَةٍ، فإنْ لم يتحققْ
هذانِ الشَّرطانِ تتَحوَّلُ الحريَّةُ إلى حريَّةٍ حمقاء، وعلى هذه الحريَّةِ
الحمقاءِ نماذجُ كثيرةٌ شاهدناها في العديدِ من الدُّولِ الَّتي تَدَّعِي الحرِّيَّة،
ففي بعض الدُّول مثلًا والتي يتمتَّعُ بحريَّةِ الإعلامِ، نراهُم يعرِضُون على
بعضِ إِذَاعاتِهِم الإعلامِيَّةِ برامِجَ لا تَتَحلَّى بأدنَى قيمِ الإنسانِيَّةِ
ولا تَحفَظُ كرامةَ الإنسان، بالإضافة لبرامج يكثرُ فيها خطابَ الكراهيَةِ والطَّائِفِيَّة.
إنّها الحرِّيَّةُ الغبيَّةُ الَّتي تدعو من يمتلكها لإطلاق الرَّصاص ابتهاجًا
بولادَةٍ أو زِواجٍ لتَسقُطَ على رأسِ الآخرين متَذَرِّعًا بأنَّهُ يتمتَّعُ
بالحريَّةِ، وأنَّ من حقه التَّعبير عن فرحه بالطَّريقَةِ الَّتي يحبُّها، وهذا
عين الغباء والحمق.
لقد انقسمَ المجتمعُ السُّوريُّ
قبل التَّحررِ إلى مجموعات متنوِّعة، لا أقصد على صعيد الطَّائفة، وإنّما على صعيد
الثَّقافات، ولكن يمكن اخزالها تحت فئتين كبيرتين، الفئة الأولى ثائرة، والفئة الثَّانية
راضخة، أمَّا الفئة الأولى (الثَّائرة) فهي إمَّا مناضِلَةٌ مقاتلة متمسّكة بالأرض
وبحق العودة وقد انتشرت في مخيَّمات الشَّمال السُّوريّ أو في مخيَّمات اللُّجوء
في دول الجوار، وإمَّا منسحبةٌ تنأى بنفسها وأولادها، وقد انتشرت في بلاد
الاغتراب، مع إيمان بعضهم بحقِّ العودةِ وسعيهم نحو الحريّة. والفئة الثانية
(الراضخة) وهي الفئة التي كانت في مناطق سيطرة النظام المخلوع، فهي أيضًا على
قسمين، قسم كان مجبرًا راضخًا لا يملك من الأمر شيئًا، ولا حيلة لديه، والقسم
الآخر كان مؤيدًا مدافعًا، وهذا المؤيّد المدافع أيضًا يمكن تقسيمُه إلى فئة
مرتزقة راغبة بتحقيق الأطماع والمنافع الشَّخصيَّة، وفئة تؤيّد بقناعة ساذجة بعيدًا
عن التَّفكير إلَّا بما يلقمه لهم إعلام النِّظام البائد.
وفي ضوء هذه الفئات
والأقسام المتنوّعة حصل المجتمع على حرِّيَّته المنشودة، وتكشّفت أسرار الظُّلم
والحرمان الَّذي عانى منه المجتمع طيلةَ خمسة عقود، وباتَ الأمر محصورًا بفكرة
البناء الجديد، لوطنٍ وُلِد من رحمِ القمع والظُّلم والحرب والتَّشرُّدِ والنّزوح.
وأمام هذه الحقيقة تبدأ
المسؤوليَّةُ في إعادة البناء، والَّتي تنطلق من بناء الإنسان في المقام الأوَّل، الذي
يجب عليه أن يتمتَّع بالحريّة الواعية بالدَّرجة الأولى والَّتي بدونها لا يستطيع
أن ينهض بمجتمعِهِ، الحرية الواعية الَّتي يعرف فيها حقوقَهُ فيطالب بها، ويعرف
واجباتِه فيفعلُها، الحريَّة الَّتي تنتهي عند حدود حريَّة الآخرين، الحرِّيَّةُ
الَّتي تمنعه أن يرتع في حقوق الناس أو أن يظلم، أو أن يرتشي، أو حتَّى أن يقصِّر
في عملِهِ، الحرية الَّتي تجعل منه إنسانًا صالحًا مخلصًا يحيا بكرامة، ملتزمًا
مبادئ الإسلام ومكارمَ الأخلاق أو القوانين المدنيّة الوضعيّة الَّتي تصون له
الحقوق وتفرض عليه الواجبات والحدود، فلا بناء دون حريّة ولا حريّة دون قيم.
والآن، هل نحن أحرار حقًا؟ وبإيّ نوع من الحريات
نتمتَّع؟
اضافة تعليق جديد
الإسم | |
البريد ( غير الزامي ) | |
|
لم يتم العثور على تعليقات بعد |
تواصل معنا